برعاية جائزة الشيخ حمد للترجمة: بكين تستضيف أول مؤتمر عربي–صيني للترجمة تنظمه مؤسسة ثقافية غير صينية



شهدت العاصمة الصينية بكين قبل أيام انعقاد مؤتمر "واقع حركة الترجمة وتحدياتها بين العربية والصينية"، الذي نظمته جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي بالتعاون مع كلية الدراسات العربية بجامعة الدراسات الأجنبية. ويُعَدّ هذا المؤتمر سبقا ثقافيا استثنائيا، باعتباره أول مبادرة من نوعها في الصين تُعنى بحركة الترجمة بين العربية والصينية، بتنظيم من جهة غير صينية، وهو ما يُجسّد الدور الطليعي للجائزة في تعزيز مكانتها كمنبر عالمي للحوار والتواصل بين الحضارات.

 

ولم يكن انعقاد المؤتمر مجرد فعالية أكاديمية عابرة، بل كان بمثابة إعلان عن ميلاد مرحلة جديدة في تاريخ التبادل الثقافي بين العالمين العربي والصيني. وتحوّل هذا اللقاء إلى فضاء نابض بالأفكار والرؤى، اجتمع فيه مترجمون وأكاديميون وطلاب من مختلف الأجيال ليعيدوا اكتشاف الترجمة لا كأداة لغوية فحسب، بل كقوة حضارية تصنع المعنى وتقرب بين الثقافات والبشر. 

 

استهلت الجلسة الافتتاحية بكلمات ترحيبية ألقاها كل من الدكتور ليو شين لو، نائب رئيس الجامعة، ثم الأستاذ عبد الرحمن المري، المسؤول الإعلامي لجائزة الشيخ حمد للترجمة، أكدت أن الترجمة ليست مجرد وسيلة لنقل الكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي جسر حضاري ينقل الفكر والروح ويقرب بين الشعوب. وأشاد المتحدثان بجهود جائزة الشيخ حمد في دعم الترجمة بوصفها أداة للتفاهم الدولي، وبأهمية هذه المبادرة التي تُعد الأولى من نوعها في الصين.

 

في أول مداخلة من الجلسة الأولى، تحدث الدكتور لين فنغمين (عامر)، أستاذ الأدب العربي في جامعة بكين ورئيس الجمعية الصينية لبحوث الأدب العربي، عن مسيرة ترجمة الإبداعات الأدبية العربية في الصين، مستعرضًا البدايات المبكرة التي شملت ترجمة قصيدة «البردة» في القرن التاسع عشر، ثم انتقال الترجمات إلى أعمال عالمية مثل «ألف ليلة وليلة» و«النبي» لجبران خليل جبران. وأوضح كيف تأثرت حركة الترجمة بالتقلبات التاريخية والسياسية، فتراجعت خلال الثورة الثقافية ثم شهدت طفرة مع سياسة الإصلاح والانفتاح في الثمانينيات. كما أشار إلى الحضور اللافت لأعمال نجيب محفوظ وأدونيس ومحمود درويش في المكتبة الصينية، مبرزا أهمية المشروعات الثنائية التي تدعم نقل الأدب العربي مباشرة إلى اللغة الصينية.

أما الدكتور قه تي ينغ (ماهر)، عضو اتحاد الكتّاب الصينيين وفائز بجائزة الشيخ حمد للترجمة في دورة2021، فقد تناول موضوع ترجمة أمهات الكتب العربية في الصين، مبرزًا الجهود التي انصبت على ترجمة النصوص الدينية كالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فضلا عن الأعمال الفكرية الكبرى مثل «المقدمة» لابن خلدون، ومؤلفات ابن سينا وابن رشد، ونصوص الخوارزمي في الرياضيات. وأكد أن جزءا من هذه الترجمات تم عبر لغات وسيطة كالفارسية والإنجليزية والفرنسية، مما يبرز الحاجة الملحة إلى تعزيز الترجمة المباشرة بين العربية والصينية لضمان الدقة والأصالة.

 

ومن جانبه، ألقى الدكتور شوي تشينغ قوه (بسام)، نائب رئيس جمعية بحوث الأدب العربي وفائز بجائزة الشيخ حمد للترجمة في فئة الإنجاز (دورة 2017)، الضوء على جهود ترجمة التراث الصيني إلى العربية، مبيّنا أن الاهتمام العربي بالفكر الصيني لم يبدأ إلا في مراحل متأخرة عبر بعض المفكرين العرب مثل ميخائيل نعيمة، قبل أن يترسخ بفضل جهود أكاديمية لاحقة على رأسها ترجمة الأستاذ محمد مكين لنصوص كونفوشيوس. وأشار إلى التحديات التي تعترض هذه العملية، ومنها الفجوة الكبيرة بين الصينية الكلاسيكية والمعاصرة، وصعوبة نقل المصطلحات الفلسفية العميقة مثل رين وداو إلى ما يقابلها في العربية. كما شدد على أن الترجمة لا تنتهي عند إنجاز النص، بل تحتاج إلى ترويج ومشاركة فعالة من النخب الثقافية العربية، محذرا من أن الدعم الحكومي – رغم ضرورته – قد يشكل خطرا على الجودة إذا لم يُقترن بالرقابة العلمية. وأكد كذلك أن الذكاء الاصطناعي يمثل فرصة لتعزيز كفاءة الترجمة، لكنه في الوقت نفسه يطرح تحديًا وجوديًا أمام دور المترجم البشري.

 

أما الدكتور ماجان مينغ (يوسف)، أستاذ الحضارة العالمية بجامعة قوانغ تشو، فقد خصص مداخلته لترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية، موضحًا أن عدد الترجمات بلغ نحو خمسين ترجمة، تراوحت بين الكلاسيكية والحديثة، وشملت لغات الأقليات مثل الأويغورية والكازاخية. وتوقف عند جهود رواد بارزين، إضافة إلى المشاريع الجماعية التي تشرف عليها الجمعية الإسلامية الصينية في السنوات الأخيرة. وأشار إلى أن هذه الترجمات اختلفت من حيث الأسلوب والمقاربة، فبعضها اكتفى بنقل النص القرآني، بينما جمع بعضها بين النص والشرح أو التفسير. كما تناول الجدل الفقهي حول جواز ترجمة القرآن، حيث يرى بعض العلماء أنها مجرد «ترجمة للمعاني» ولا يمكن أن تحل محل النص القرآني المعجز.

 

وافتُتحت الجلسة الثانية بوصلات فنية أبدعها طلاب وطالبات الجامعة شملت عزف قطع موسيقية على آلة العود وكتابة الحكم العربية والصينية بالخط العربي في مشهد جمع بين نغمات الطرب وروائع الحرف.

 

بعد الفقرة الفنية، قدمت الدكتورة يه ليانغ ينغ (هند)، أستاذة اللسانيات العربية وتعليم العربية للناطقين بغيرها في جامعة بكين، مداخلة بعنوان: "الترجمة كوسيلة من وسائل تعليم اللغة العربية في الجامعات الصينية"، حيث أوضحت أن طريقة الترجمة والقواعد، رغم قدمها، ما زالت فعّالة في السياق الصيني، إذ تساعد على بناء أساس لغوي متين وتقييم مستوى الطلاب بدقة. لكنها لفتت أيضًا إلى سلبياتها مثل ضعف تنمية المهارات الشفوية والطابع الميكانيكي للتعلم. واقترحت نموذجًا تكامليًا يدمج الترجمة مع المناهج التفاعلية والتقنيات الرقمية، مؤكدة أن ذلك يعزز الكفاءة التواصلية إلى جانب الدقة اللغوية.

 

ومن جهته، قدّم الأستاذ جين تشونغ جيه (شمس الدين)، باحث بارز في تعليم العربية والدراسات الإسلامية بجامعة نينغشيا، مداخلة عن التبادل الحضاري عبر الترجمة، مبرزا أن ترجمة النصوص الدينية، خاصة القرآن والحديث، كانت حجر الأساس في الحوار الثقافي بين العرب والصينيين. وأوضح كيف أسهم العلماء الصينيون المسلمون في مواءمة القيم الإسلامية مع المبادئ الكونفوشية، مما عزز القيم المشتركة كالعدل والبر بالوالدين وحب الوطن، وجعل الترجمة أداة للتفاهم والتعايش الحضاري.

واختتم الجلسة الثانية الدكتور تشو كاي (نصر الدين)، أستاذ متقاعد من جامعة بكين، بتقديم تجربة "صندوق تشو كاي التعليمي"، الذي تأسس عام 2018 لدعم تعليم العربية والبحوث والترجمة في الصين. يقدّم الصندوق جوائز سنوية في التدريس والبحث والترجمة، وكرّم مترجمين بارزين أنجزوا ترجمات لكلاسيكيات الفكر الصيني والأدب العربي. وأكد المتحدث أن الصندوق يواصل مشروعات طموحة مثل ترجمة المعلقات وألف ليلة وليلة، ما يعزز جسور التعاون الثقافي بين الصين والعالم العربي.

 

وخلال النقاش العام، دعا المتدخلون إلى إنشاء لجان تحريرية متخصصة لضمان جودة الترجمات وتلافي الأخطاء اللغوية والتحريرية، كما أشاروا إلى ضرورة تطوير أساليب جديدة قادرة على الجمع بين جماليات النص وروحه. وأكدوا أن الترجمة يجب أن تكون عملية مدعومة مؤسسيًا لكنها في الوقت نفسه منضبطة بمعايير الجودة العلمية.

 

وفي ختام المؤتمر، أبرزت الكلمات الختامية أن الترجمة تظل ركيزة أساسية في تعزيز التفاهم الإنساني والحوار بين الحضارات، وأنها وسيلة لتجاوز حواجز اللغة والاختلافات الثقافية. وقد نُوّه بمبادرات فردية بارزة، من بينها تأسيس صناديق تعليمية لدعم تعليم العربية في الجامعات الصينية وتشجيع حركة الترجمة المباشرة. وأعرب المشاركون عن أملهم في أن يشكل هذا المؤتمر محطة جديدة على طريق التعاون الأكاديمي والثقافي بين العرب والصينيين، وخطوة نحو لقاءات مقبلة تعمق الشراكات وتفتح آفاقًا أوسع للحوار الحضاري.
نشر :